رجال حول الرسول عليه الصلاة و السلام
عبد الله بن عمرو بن العاص ( القانت الأوّاب )
رجال لا كالرجال , مصابيح الهدى و مشاعل تنير لنا عتمة طريقنا في هذه الحياة , نجوم ضوئها يملئ فضاءات الكون الفسيح .
كانوا رجالا حول الرسول بهم ارتفعت رايات الحق و سطروا لمن بعدهم أروع الأمثلة في الإخلاص و العمل و العزم و القوة في الحق , باعوا أنفسهم لله فربحوا البيع فكان حقا على من بعدهم أن يهتدي بهديهم و يسير على إثرهم و يتتبع خطاهم
صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي عن أصحابه لكل منهم تجليات يجب أن نسلط الضوء عليها و اضاءات يجب أن نستنير بها
و بعد هذه المقدمة الوجيزة أترككم مع هذه الشذرات لتقطفوا من غناء حدائق فضائلهم بعض الزهرات و أسألكم الدعاء لمن كتب و نقل و اخرج و كل من له يد في هذا العمل
عبدالله بن عمرو بن العاص - ( القانت الأوّاب )
القانت ، التائب، العابد، الأواب، الذي نستها الحديث عنه الآن هو: عبد الله بن عمرو بن العاص..
بقدر ما كان أبوه أستاذا في الذكاء و الدهاء وسعة الحيلة.. كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين ، الواضحين ..
لقد أعطى العبادة وقته كله ، و حياته ملها ..
وثمل بحلاوة الأيمان ، فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه..
**
ولقد سبق أباه إلى الإسلام ، ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعا ، وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته ..
عكف أولا على القرآن الذي كان يتنزل منجّما ، فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها ، حتى إذا تمّ واكتمل ، كان لجميعه حافظا..
و لم يكن يحفظه ليكون مجرّد ذاكرة قوية ، تضمّ بين دفتيها كتابا محفوظا ..
بل كان يحفظه ليعمر به قلبه ، وليكون بعد هذا عبده المطيع، يحلّ ما أحلّ ، ويحرّم ما يحرّم ، و يستجيب له في كل ما يدعو إليه ثم يعكف على قراءته ، وتدبّره وترتيله ، متأنقا في روضاته اليانعات ، محبور النفس بما تفيئه آياته الكريمة من غبطة ، باكي العين بما تثيره من خشية ..!!
كان عبد الله قد خلق ليكون قد قدّيسا عابدا ، ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له ، وهدي إليه ..
إذا خرج جيش الإسلام إلى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه لحروب و العداوة ، وجدناه في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب ، وإلحاح عاشق ..!!
فإذا وضعت الحرب أوزارها، فأين نراه..؟؟
هناك في المسجد الجامع ، أو في مسجد داره ، صائم نهاره ، قائم ليله ، لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا ، إنما هو رطب دائما بذكر الله ، تاليا قرآنه ، أو مسبّحا بحمده ، أو مستغفرا لذنبه ..
وحسبنا إدراكا لأبعاد عبادته ونسكه، أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس إلى عبادة الله . يجد نفسه مضطرا للتدخل كما يحد من إيغال عبد الله في العبادة ..!!
وهكذا إذا كان أحد وجهي العظة في حياة عبد الله بن عمرو ، الكشف عما تزخر به النفس الإنسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقضى درجات التعبّد والتجرّد والصلاح ، فان وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد والاعتدال في نشدان كل تفوّق واكتمال ، حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها.. وحتى تبقى للجسد عافيته وسلامته ..!!
لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..
وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر إلى الفجر في عبادة موصولة ، صيام و صلاة ، وتلاوة قرآن ..
فاستدعاه النبي إليه ، وراح يدعوه إلى القصد في عبادته ..
قال له الرسول عليه الصلاة والسلام :
" ألم اخبر أنك تصوم الناهر، ولا تفطر، وتصلي الليل لا تنام ..؟؟
فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ..
قال عبد الله :
إني أطيق أكثر من ذلك ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
فحسبك أن تصوم من كل جمعة يومين ..
قال عبد الله :
فاني أطيق أكثر من ذلك ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فهل لك إذن في خير الصيام ، صيام داود ، كان يصوم يوما ويفطر يوما..
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:
وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة
واني أخشى أن يطول بك العمر
وأن تملّ قراءته ..!!
اقرأه في كل شهر مرّة ..
اقرأه في كل عشرة أيام مرّة ..
اقرأه في كل ثلاث مرّة ..
ثم قال له :
إني أصوم وأفطر..
وأصلي وأنام.
و أتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي
فليس مني ".
ولقد عمّر عبد الله بن عمرو طويلا .. و لما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول :
" يا ليتني قبلت رخصة رسول الله "..
**
إن مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور عليه في معركة تدور رحاها بين جماعتين من المسلمين .
فكيف حملته ساقاه إذن من المدينة إلى صفين حيث أخذ مكانا في جيش معاوية في صراعه مع الإمام علي .. ؟
الحق أن موقف عبد الله هذا ، جدير بالتدبّر، بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرا بالتوقير والإجلال ..
رأينا كيف كان عبد الله بن عمرو مقبلا على العبادة إقبالا كاد يشكّل خطرا حقيقيا على حياته ، الأمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما ، فيشكوه إلى رسول الله كثيرا.
وفي المرة الأخيرة التي أمره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدد له مواقيتها كان عمرو حاضرا ، فأخذ الرسول يد عبد الله ، ووضعها في يد عمرو ابن العاص أبيه .. وقال له :
" افعل ما أمرتك ، وأطع أباك ".
وعلى الرغم من أن عبد الله ، كان بدينه وبخلق ، مطيعا لأبويه فقد كان أمر الرسول له بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة ذا تأثير خاص على نفسه .
وعاش عبد الله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة .
" افعل ما أمرتك ، وأطع أباك ".
**
وتتابعت في موكب الزمن أعوام وأيام
و رفض معاوية بالشام أن يبايع عليا ..
و رفض علي أن يذعن لتمرّد غير مشروع .
وقامت الحرب بين طائفتين من المسلمين .. ومضت موقعة الجمل .. وجاءت موقعة صفين .
كان عمر بن العاص قد اختار طريقه إلى جوار معاوية وكان يدرك مدى إجلال المسلمين لابنه عبد الله ومدى ثقتهم في دينه ، فأراد أن يحمله على الخروج ليكسب جانب معاوية بذلك الخروج كثيرا..
كذلك كان عمرو يتفاءل كثيرا بوجود عبد الله إلى جواره في قتا ، وهو لا ينسى بلاءه معه في فتوح الشام، ويوم اليرموك.
فحين همّ بالخروج إلى صفين دعاه إليه وقال له :
يا عبد الله تهيأ للخروج ، فانك ستقاتل معنا..
وأجابه عبد الله :
" كيف وقد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم أبدا ..؟؟
وحاول عمرو بدهائه إقناعه بأنهم إنما يريدون بخروجهم هذا أن يصلوا الى قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه الزكيّ .
ثم ألقى مفاجأته الحاسمة قائلا لولده :
" أتذكر يا عبد الله ، آخر عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك : أطع أباك ؟..
فاني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل ".
وخرج عبد الله بن عمرو طاعة لأبيه ، وفي عزمه إلا يحمل سيفا ولا يقا مسلما ..
ولكن كيف يتم له هذا ..؟؟
حسبه الآن أن يخرج مع أبيه .. أما حين تكون المعركة فله ساعة إذ أمر يقضيه ..!
و نشب القتال حاميا ضاريا ..
ويختلف المؤرخون فيما إذا كان عبد الله قد اشترك في بدايته أم لا ..
و نقول : بدايته .. لأن القتال لم يلبث إلا قليلا ، حتى وقعت واقعة جعلت عبد الله بن عمرو يأخذ مكانه جهارا ضدّ الحرب ، وضدّ معاوية ..
و ذلك إن عمّار بن ياسر كان يقاتل مع عليّ و كان عمّار موضع إجلال مطلق من أصحاب الرسول .. و أكثر من هذا ، فقد تنبأ في يوم بعيد بمصرعه و مقتله .
كان ذلك والرسول وأصحابه يبنون مسجدهم بالمدينة اثر هجرتهم إليها..
و كانت الأحجار عاتية ضخمة لا يطيق أشد الناس قوة أن يحمل منها أكثر من حجر واحد.. لكن عمارا من فرط غبطته و تشوقه ، راح يحمل حجرين حجرين ، وبصر به الرسول فتملاه بعينين دامعتين وقال :
" ويح ابن سميّة ، تقتله الفئة الباغية ".
سمع كل أصحاب رسول الله المشتركين في البناء يومئذ هذه النبوءة ، ولا يزالون لها ذاكرين .
وكان عبد الله بن عمر أحد الذين سمعوا .
وفد بدء القتال بين جماعة عليّ و جماعة معاوية ، كان عمّار يصعد الروابي ويحرّض بأعلى صوته ويصيح .
" اليوم نلقى الأحبة ، محمدا وصحبه ".
و تواصى بقتله جماعة من جيش معاوية ، فسددوا نحوه رمية آثمة ، نقلته إلى عالم الشهداء الأبرار.
و سرى النبأ كالريح أن عمّار قد قتل ..
وانقضّ عبد الله بن عمرو ثائرا مهتاجا :
أوقد قتل عمار .. ؟
وأنتم قاتلوه .. ؟
إذن انتم الفئة الباغية .
أنتم المقاتلون على ضلالة ..!!
وانطلق في جيش معاوية كالنذير، يثبط عزائمهم ، ويهتف فيهم أنهم بغاة ، لأنهم قتلوا عمارا وقد تنبأ له الرسول منذ سبع وعشرين سنة على ملأ من المسلمين بأنه ستقتله الفئة الباغية ..
وحملت مقالة عبد الله إلى معاوية ، ودعا عمرا وولده عبد الله، وقال لعمرو:
" ألا تكف عنا مجنونك هذا ..؟
قال عبد الله :
ما أنا بمجنون و لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية .
فقال له معاوية :
فلم خرجت معنا : ؟
قال عبد الله:
لأن رسول الله أمرني أن أطيع أبي ، و قد أطعته في الخروج، ولكني لا أقاتل معكم .
وإذ هما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار في الدخول ، فصاح عبد الله بن عمرو:
ائذن له وبشره بالنار.
وأفلتت مغايظ معاوية على الرغم من طول أناته ، وسعة حلمه ، وصاح بعمرو : أو ما تسمع ما يقول ..
وعاد عبد الله في هدوء المتقين واطمئنانهم ، يؤكد لمعاوية أنه ما قال إلا الحق ، وأن الذين قتلوا عمارا ليسوا إلا بغاة ..
والتفت صوب أبيه وقال :
لولا أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معكم هذا المسير .
و خرج معاوية وعمرو يتفقدان جيشهما ، فروّعا حين سمعوا الناس جميعا يتحدثون عن نبوءة الرسول لعمار :
تقتلك الفئة الباغية .
وأحس عمرو ومعاوية أن هذه المهمة توشك أن تتحول إلى نكوص عن معاوية وتمرّد عليه .. ففكرا حتى وجدا حيلتهما التي مضيا يبثانها في الناس ..
قالا :
نعم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار ذات يوم :
تقتلك الفئة الباغية ..
و نبوءة الرسول حق ..
وها هو ذا عمار قد قتل ..
فمن قتله ..؟؟
إنما قتله الذين خرجوا به ، و حملوه معهم إلى القتال "..!!
و في مثل هذا الهرج يمكن لأي منطق أن يروّج ، وهكذا راج منطق معاوية وعمرو ..
واستأنف الفريقان القتال ..
وعاد عبد الله بن عمرو إلى مسجده ، وعبادته ..
**
وعاش حياته لا يملؤها بغير مناسكه وتعبّده..
غير أن خروجه إلى صفين مجرّد خروجه ، ظل مبعوث قلق له على الدوام .. فكان لا تلم به الذكرى حتى يبكي و يقول :
" ما لي و لصفين ..؟؟
ما لي ولقتال المسلمين"..؟
**
وذات يوم وهو جالس في مسجد الرسول مع بعض أصحابه مرّ بهم الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وتبادلا السلام ..
ولما مضى عنهم قال عبد الله لمن معه :
" أتحبون أن أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء ..؟
انه هذا الذي مرّ بنا الآن . الحسين بن علي ..
وانه ما كلمني منذ صفين ..
و لأن يرضى عني أحب إلي من حمر النعم "..!!
واتفق مع أبي سعيد الخدري على زيارة الحسين ..
وهناك في دار الحسين تم لقاء الأكرمين ..
وبدأ عبد الله بن عمرو الحديث ، فأتى على ذكر صفين فسأله الحسين معاتبا :
" ما الذي حملك على الخروج مع معاوية "..؟؟
قال عبد الله :
" ذات يوم شكاني عمرو بن العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له :
" إن عبد الله يصوم النهار كله ، ويقوم الليل كله .
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا عبد الله صل و نم .. و صم و افطر .. وأطع أباك ..
و لما كان يوم صفين أقسم عليّ أبي أن أخرج معهم ، فخرجت ..
ولكن والله ما اخترت سيفا ، ولا طعنت برمح ، ولا رميت بسهم"..!!
وبينما هو يتوقا الثانية والسبعين من عمره المبارك ..
وإذ هو في مصلاه ، يتضرّع إلى ربه ، ويسبّح بحمده دعي إلى رحلة الأبد ، فلبى الدعاء في شوق عظيم ..
والى إخوانه الذين سبقوه بالحسنى ، ذهبت روحه تسعى وتطير..
والبشير يدعوها من الرفيق الأعلى :
( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي )..