""""العجب ممن ينسى الموت !!
عجبا لقوم نسوا الموت وغفلوا عنه وهو أظهر اليقينيات والقطعيات في العالم وأسرع الأشياء إلى بني آدم،
(أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) (32). وقال - (كل نفس ذائقة الموت وأنما يتوفون أجورهم يوم القيامة فيمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (33). وقال الصادق (ع): (ما خلق الله يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت). وقال أمير المؤمنين (ع) (ما أنزل الموت حق منزلته من عد غدا من أجله) وقال (ع): (لو رأى العبد أجله وسرعته إليه، لأبغض العمل من الدنيا). وقال الصادق (ع) (ما من أهل بيت شعر ولا وبر إلا وملك الموت يتصفحه كل يوم خمسة مرات). وقد تقدمت أخبار أخر في هذا المعنى.
فصل الموت أعظم الدواهي :::
إعلم أن الموت داهية من الدواهي العظمى، ومن كل داهية أشد وأدهى وهو من الأخطار العظيمة والأهوال الجسيمة، فمن علم أن الموت مصرعه والتراب مضجعه والقبر مقره وبطن الأرض مستقره، والدود أنيسه والعقارب والحيات جليسه، فجدير أن تطول حسرته وتدوم عبرته، وتنحصر فيه فكرته وتعظم بليته، وتشتد لأجله رزيته، ويرى نفسه في أصحاب القبور ويعدها من الأموات، إذ كلما هو آت قريب والبعيد ما ليس بآت وحقيقة ألا يكون ذكره وفكره وغمه وهمه وقوله وفعله وسعيه وجده إلا فيه وله، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: (لو أن البهائم يعلمون ما تعلمون ما أكلتم منه سمينا). وقال (ص) لقوم يتحدثون ويضحكون: (أذكروا الموت أما والذي نفسي بيده! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). ومر (ص) بمجلس قد استعلاه الضحك، فقال: (شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات). قالوا: وما مكدر اللذات؟ قال: (الموت). ثم غفلة الناس عن الموت لقلة فكرهم فيه وذكرهم له، ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ، بل بقلب مشغول بشهوات الدنيا وعلائقها، فلا
(32) النساء، الآية: 77. (33) آل عمران، الآية: 185 (*)
ص 33
ينفع ذكره في قلبه، فالطريق فيه: أن يفرغ القلب عن كل شيء إلا عن ذكر الموت الذي بين يديه، كالذي يريد أن يسافر إلى بلد بعيد ما بينهما مفازة مخطرة، أو بحر عظيم لا بد أن يركبه، فإنه لا يتفكر إلا فيه، ومن تفكر في الموت بهذا الطريق وتكرر منه، لا ترى ذكره في قلبه، وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا وتنزجر نفسه عنها، وينكسر قلبه، ويستعد لأجله. وأوقع طريق فيه أن يكثر ذكر أقرانه الذين مضوا قبله، ونقلوا من أنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مصاحبة الهوام والديدان، ويتذكر مصرعهم تحت التراب، ويتذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم، ثم يتفكر كيف محي التراب الآن حسن صورتهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم، وكيف أملوا نسائهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت منهم مساكنهم ومجالسهم وانقطعت آثارهم وأوحشت ديارهم، فمهما تذكر رجلا وفصل في قلبه حاله وكيفية صيانة وتوهم صورته، وتذكر نشاطه، وأمله في العيش والبقاء، ونسيانه للموت، وانخداعه بمؤثثات الأسباب، وركونه إلى القوة والشباب، وميله إلى الضحك واللهو، وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع والهلاك السريع، وأنه كيف كان يتردد والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله، وكيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه، وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه، وكيف دبر لنفسه الأمور وجمع من حطام الدنيا ما لا ينفق احتياجه إليه على مر الأعوام والشهور وذكر الأزمنة والدهور. ثم يتأمل أن مثلهم، وغفلته كغفلتهم وسيصير حاله في القبر كحالهم، فملازمة هذه الأفكار وأمثالها، مع دخول المقابر وتشييع الجنائز ومشاهدة المرضى، تجدد ذكر الموت في قلبه، حتى يغلب عليه بحيث يصير الموت نصب عينيه وذلك ربما يستعد له ويتجافى عن دار الغرور، وأما الذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان فقيل الجدوى في النية والايقاظ ومهما طاب قلبه بشيء من أسباب الدنيا، فينبغي أن يتذكر في الحال أنه لا بد من مفارقته كما نقل: أن بعض الأكابر نظر يوما إلى داره فأعجبه حسنها فبكى وقال: والله لولا الموت لكنت مسرورا بها.
ص 34
فصل مراتب الناس في ذكر الموت :::
الناس بين منهمك في الدنيا خائض في لذاتها وشهواتها. وبين تائب مبتدئ، وعارف منتهي. (فالأول): لا يذكر الموت، وأن ذكره فيذكر ليذمه لصده عما يحبه في الدنيا، وهو الذي يفر منه، وقال الله - تعالى - فيه (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم)... (34) وهذا يزيده ذكر الموت بعدا من الله، إلا إذا استفاد منه التجافي عن الدنيا، ويتنغص عليه نعيمه، ويتكدر صفو لذته، وحين إذ ينفعه، لأن كل ما يكدر على الإنسان اللذات فهو من أسباب نجاته. (والثاني): يكثر ذكر الموت لينبعث من قلبه الخوف والخشية، ففي بتمام التوبة، وربما يكرهه خيفة من أن يختطفه قبل الاستعداد وتهيئة لزاد وتمام التوبة، وهو معذور في كراهة الموت، ولا يدخل تحت قوله (ص): (من كره لقاء الله كره الله لقاءه)، لأن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، وهو الذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقاءه على وجه يرضاه، فلا يعد كارها للقاءه. وعلامة هذا: أن يكون دائم الاستعداد للموت لا شغل له سواه، وإن لم يكن مستعدا له عاملا بما ينفعه في الآخرة التحق بالأول. (وأما الثالث): فإنه يذكر الموت دائما، لأنه موعد للقاء حبيبه، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وهذا في الغالب الأمر يستبطئ مجئ الموت ويحب مجيئه، ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين كما روي: (أن حذيفة لما حضرته الوفاة قال: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من رده، اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة، فسهل علي الموت حتى ألقاك). وأعلى رتبة منه: من يفوض أمره إلى الله، ولا يختار لنفسه شيئا: من الموت
أو الحياة، والفقر والغنى، والمرض والصحة، بل يكون أحب الأشياء إليه أحبها إلى مولاه، وهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى درجة التسليم والرضا، وهو الغاية والانتهاء.
تتميم المبادرة إلى الحسنات :::
من علامات قصر الأمل وذكر الموت: المبادرة إلى الحسنات واشتياق الخيرات، ولذا ورد فيه الترغيب والحذر عن آفة التأخير، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك). وقال (ص): (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) (35). وكان (ص) إذا أحس من أصحابه غفلة وغرة، نادى فيهم بصوت عال: (أتتكم المنية، إما بشقاوة أو سعادة). وروي: أنه ما من صباح ولا مساء إلا ومناد ينادي: أيها الناس! الرحيل الرحيل!. وقال بعض الأكابر: التؤدة في كل شيء خير، إلا في أعمال الآخرة. ومنها:
• العصيان ::::
ولا ريب في كونه من رذائل قوتي الغضب والشهوة معا، لأن بعض أنواعه من رذائل إحداهما من جانب الإفراط أو التفريط، أو من باب رداءتها وبعض آخر من أنواعه من رذائل الأخرى. وضده (التقوى والورع)، وبالمعنى الأعم: أعني الاجتناب عن مطلب المعصية خوفا من سخط الله، وقد تقدم ما ورد في فضيلتهما، فتذكر. ومنها:
• الوقاحة :::
وهو عدم مبالاة النفس، وعدم انفعالها من ارتكاب المحرمات الشرعية والعقلية أو العرفية، وكونه من رداءة قوتي الغضب والشهوة ظاهر.