[ حينما كنت طفلة كنت أقف على شاطئ البحر، أحدق فى مياهه المتلاطمة وأمواجه المتتابعة، عاجزة عن أن أرى الشاطئ الآخر فى الناحية المقابلة! بالنسبة لى كان البحر بلا نهاية، وكنت أستعجل أن أخوض فيه بسرعة.
كان الشاطئ رائعا، يبرق بالرمال الذهبية، والشمس الفضية، شمس طفولتى، وكانت أمى هناك وكان أبى! كنت سعيدة جدا دون أن أدرى! لكننى لم أمنح نفسى فرصة الفرح. كنت مشغوله بأن أعبر بسرعة، عاجزةعن أن أستمتع باللحظة، خيالى المحموم صوّر لى أنه لا شىء بينى وبين السعادة، إلا أن أضرب فى الموج بيدى، وأعبر الزمن.
ضربت فى الموج بسرعة، عبرت البحر بسرعة، ومرّ العمر بسرعة، لكننى لم أنتبه وقتها إلى مرور الزمن، لم أتخيل أننى سأكبر كالآخرين، أو تعرف التجاعيد طريقها لوجهى، أو يشرق فى شعرى نهار.
أذكر أننى حينما بلغت الأربعين صعقنى الرقم! شعرت بالارتباك الشديد. ولأول مرة فى حياتى أفكر فى الموت بجدية. الموت! ما معنى الموت! كنت أعرف أن الناس يموتون، ولكن أنا! هذا شىء يحدث للآخرين فقط. لم أكن أشعر بخوف، ولكننى كنت حزينا وآسفا.
أموت؟ أنتهى؟ يكف تيار الوعى! أتحلل! أختفى! أصبح غير موجود، بعد أن كنت موجودا! لا أعرف ماذا يحدث فى الحياة بعدي! أصير والعدم سواء! بل أصبح أنا العدم! ظللت أفكر فى الموت ليل نهار، مندهشا من حقيقته الصاعقة، مذهولا من أن الناس يمشون، ويأكلون، ويضحكون، ويعشقون، ويكرهون، ويعقدون الصفقات، وكأنّ الموت إذا لم تفكر فيه لن يأتى.
ما بين الأربعين والخمسين تتابعت أعوامى بسرعة. إذ يبدو أننا كلما كبرنا صار الزمن يمر أسرع. أذكر فى طفولتى أن النهار كان طويلا، ويتسع لعشرات الأشياء، واليوم تكر أعوامى فى لمح البصر. وبالأمس فقط بدأت عامى التاسع والأربعين، وأصبحت الخمسون على مرمى النظر. لكن الرقم المستدير لم يعد يربكنى أو يخيفنى! تصالحت مع الزمن! أدركت أن معركة الإنسان مع الزمن محسومة، والهزيمة أمامه بطعم النصر. وهذا الرضيع سيصبح عجوزا محنى القامة، هذه كأس دوّارة سنذوقها كلنا.
فى هذه الأعوام تعلمت أشياء كثيرة: أدركت أن أجسادنا تكبر، وروح الإنسان لا تكبر، عصية على الخدش، ممتنعة عن الزمن. وأن الطفل داخلى سيصحبنى إلى القبر. نحن لا نكبر. بالفعل لا نكبر. كل ما هنالك أننا خلعنا وجوهنا النضرة وارتدينا وجوها قديمة، لكن الجوهر هو هو.
لاحظت أيضا أننى لم أعد أهاب الموت، وإن كنت حتى الآن لم أتصالح معه. واكتشفت أن كل يوم أضعته فى غير الفرح هو يوم مسروق من عمرى. وبدأت أرى الكون بعين أخرى. يا إلهى كم هو كون بديع! صرت أتبتل فى حب كل زهرة، وكأنها آخر زهرة. صرت أتتبع يوما بعد يوم منازل القمر. صرت أتطلع إلى النجوم، وارتمى فى أحضان اللون الأخضر! ولأول مرة أعرف نعمة التأمل.
أدركت أن الأسئلة الكبرى لا جواب لها، وأن الألغاز التى حيرت أجداد أجدادنا، هى نفسها التى ستحير أحفاد أحفادنا! وأن السؤال هو المهم وليست الإجابة!
عرفت أيضا أن الفروق بين الناس أقل مما كنت أتخيل، ولذة طبق فول مصنوع بإتقان هى نفس لذة المآدب الملكية. وأن الأشياء الخسيسة هى فقط التى يستأثر بها الغنى، أما الأشياء النفيسة فيتشارك فيها الجميع، لأنها أغلى من أن تُباع أو تشترى، كالحب وسطوع الشمس وفتنة القمر.
وفهمت أن الله هو الموجود الحقيقى، وما هذا الكون المنصوب والمسرحية المعقودة إلا شهود على وجوده. ففرحت بأنه موجود، ورضيت بأن أكون من شهوده.