رجال حول الرسول عليه الصلاة و السلام
عبد الله بن رواحة ( يا نفس إلا تقتلي تموتي )
رجال لا كالرجال , مصابيح الهدى و مشاعل تنير لنا عتمة طريقنا في هذه الحياة , نجوم ضوئها يملئ فضاءات الكون الفسيح .
كانوا رجالا حول الرسول بهم ارتفعت رايات الحق و سطروا لمن بعدهم أروع الأمثلة في الإخلاص و العمل و العزم و القوة في الحق , باعوا أنفسهم لله فربحوا البيع فكان حقا على من بعدهم أن يهتدي بهديهم و يسير على إثرهم و يتتبع خطاهم
صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي عن أصحابه لكل منهم تجليات يجب أن نسلط الضوء عليها و اضاءات يجب أن نستنير بها
و بعد هذه المقدمة الوجيزة أترككم مع هذه الشذرات لتقطفوا من غناء حدائق فضائلهم بعض الزهرات و أسألكم الدعاء لمن كتب و نقل و اخرج و كل من له يد في هذا العمل
عبد الله بن رواحة - ( يا نفس ، إلا تقتلي تموتي )
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفياً من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشترف مكة ، يبايع اثني عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى، كان هناك عبد الله بن رواحة واحدا من هؤلاء النقباء ، حملة الإسلام إلى المدينة ، والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله ، والإسلام ..
وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية ، كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء المبايعين ...
وبعد هجرة الرسول وأصحابه إلى المدينة واستقرارهم بها ، كان عبد الله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم بنائه، وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الإسلام اليها، والذي لم تبارح حلقومه مرارة الفرصة الضائعة ، فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للإسلام . في حين مضى عبد الله بن رواحة يتعقب هذا الدهاء ببصيرة منيرة ، أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته ، وشلّت حركة دهائه ..!!
وكان ابن رواحة رضي الله عنه ، كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة إلا يسيرا..
و كان شاعرا ، ينطلق الشعر من بين ثناياه عذبا قويا ..
و منذ أسلم ، وضع مقدرته الشعرية في خدمة الإسلام ..
وكان الرسول يحب شعره ويستزيده منه ..
جلس عليه السلام يوما مع أصحابه، وأقبل عبد الله بن رواحة ، فسأله النبي :
" كيف تقول الشعر إذا أردت أن نقول "..؟؟
فأجاب عبد الله :" أنظر في ذاك ثم أقول"..
ومضى على البديهة ينشد :
يا هاشم الخير إن الله فضّلكم
على البريّة فضلا ما له غير
إني تفرّست فيك الخير أعرفه
فراسة خالفتهم في الذي نظروا
و لو سألت أو استنصرت بعضهم و
في حلّ أمرك ما ردّوا ولا نصروا
فثّبت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى و نصرا كالذي نصروا
فسرّ الرسول ورضي وقال له :
" و إياك ، فثّبت الله "..
وحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء
كان ابن رواحة بين يديه ينشد من رجزه :
يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا
إن الذين قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة ألبنا
وكان المسلمون يرددون أنشودته الجميلة ..
وحزن الشار المكثر، حين تنزل الآية الكريمة :
( والشعراء يتبعهم الغاوون ) ..
ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين تنزل آية أخرى:
( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا ، وانتصروا من بعد ما ظلموا ..)
**
وحين يضطر الإسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه ، يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده :
" يا نفس إلا تقتلي تموتي "..
وصائحا في المشركين في كل معركة وغزاة :
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا، فكل الخير في رسوله
**
وجاءت غزوة مؤتة..
وكان عبد الله بن رواحة ثالث الأمراء ، كما أسلفنا في الحديث عن زيد و جفعر ..
ووقف ابن رواحة رضي الله عنه والجيش يتأهب لمغادرة المدينة ..
وقف ينشد ويقول :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حرّان مجهرة بحربة تنفد الأحشاء و الكبدا
حتى يقال إذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا
أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء سواها .. ضربة سيف أن طعنة رمح ، تنقله إلى عالم الشهداء والظافرين ..!!
**
وتحرّك الجيش إلى مؤتة ، وحين استشرف المسلمون عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل، إذ رأوا صفوفا لا آخر لها ، وأعداد نفوق الحصر والحساب ..!!
ونظر المسلمون إلى عددهم القليل، فوجموا .. وقال بعضهم :
" فلنبعث إلى رسول الله ، نخبره بعدد عدوّنا ، فإما أن يمدّنا بالرجال ، وأمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع "..
بيد أن ابن رواحة نهض وسط صفوفهم كالنهار، وقال لهم :
" يا قوم ..
إنا والله ، ما نقاتل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ..
فانطلقوا.. فإنما هي إحدى الحسينيين ، النصر أو الشهادة "...
وهتف المسلمون الأقلون عددا، الأكثرون إيمانا ،..
هتفوا قائلين :
" قد والله صدق ابن رواحة "..
و مضى الجيش إلى غايته، يلاقي بعدده القليل مائتي ألف ، حشدهم الروم للقال الضاري الرهيب ...
**
والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل ..
وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة شهيدا مجيدا ..
و تلاه الأمير الثاني جعفر بن عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة و عظمة ..
وتلاه ثالث الأمراء عبد الله بن رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته ، وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام العرمرم اللجب، الذي حشده هرقل ..
وحين كان ابن رواحة يقاتل كجندي ، كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة ..
أما الآن ، وقد صار أميرا للجيش و مسؤولا عن حياته ، فقد بدا أمام ضراوة الروم ، وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب ، لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح ..
أقسمت يا نفس لتنزلنّه مالي أراك تكرهين الجنّة ؟؟
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنّت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت
يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه إلى الشهادة : زيدا وجعفر..
" إن تفعلي فعلهما هديت .
انطلق يعصف بالروم عصفا ..
و لا كتاب سبق بأن يكون موعده مع الجنة ، لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة .. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء المسيرة إلى الله ، فصعد شهيدا ..
هوى جسده ، فصعدت إلى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة ..
وتحققت أغلى أمانيه :
حتى يقال إذا مرّوا على جدثي
يا أرشد الله من غار، وقد رشدا
نعم يا ابن رواحة ..
يا أرشد الله من غاز وقد رشدا ..!!
**
و بينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة ، يحادثهم ويحادثونه ..
و فجأة والحديث ماض في تهلل و طمأنينة ، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسدل جفنيه قليلا .. ثم رفعهما لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان ..!!
وطوفّت نظراته الآسية وجوه أصحابه وقال :
" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا .
ثم أخذها جعفر فقاتل بها ، حتى قتل شهيدا "..
وصمت قليلا ثم استأنف كلماته قائلا :
" ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها ، حتى قتل شهيدا "..
ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض متهلل ، مطمئن ، مشتاق . ثم قال :
" لقد رفعوا إلى الجنة "..!!
أيّة رحلة مجيدة كانت ..
وأي اتفاق سعيد كان ..
لقد خرجوا إلى الغزو معا ..
و كانت خير تحيّة توجّه لذكراهم الخالدة ، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لقد رفعوا إلى الجنة "..!!