قصة أصحاب الاخدود
قال الله تعالى: (والسماء ذات البروج واليوم الموعودوشاهد ومشهود قتل أصحاب الاخدود النار ذات الوقود.
إذ هم عليها قعود.
وهم على ما يفعلون بالمؤمنينشهود.
وما نقموا منهم إلا أنيومئذ بالله العزيز الحميد.
الذي له ملك السموات والارضوالله على كل شئ شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنمولهم عذاب الحريق) [ البروج: 1 - 10 ].
قد تكلمنا على ذلك مستقصىفي تفسيره هذه السورة ولله الحمد.
وقد زعم محمد بن إسحاق:أنهم كانوا بعد مبعث المسيح، وخالفه غيره فزعموا أنهم كانوا قبله.
وقد ذكر غير واحد أن هذاالصنيع مكرر في العالم مرارا في حق المؤمنين من الجبارين الكافرين ولكن هؤلاء المذكورونفي القرآن قد ورد فيهم حديث مرفوع، وأثر أورده ابن إسحاق، وهما متعارضان وها نحن نوردهمالتقف عليهما.
قال الامام أحمد: حدثناحماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم قال: " كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملكإني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاما فلاعلمه
السحر فدفع إليه غلامافكان يعلمه السحر وكان بين الملك وبين الساحر راهب فأتى الغلام على الراهب فسمع منكلامه، فأعجبه نحوه وكلامه وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال ما حبسك ؟ وإذا أتى أهلهضربوه وقالوا: ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسنيأهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر، قال فبينا هو ذات يوم إذ
أتى على دابة (1) فظيعةعظيمة قد حبست الناس فلا يستيطعون أن يجوزوا فقال اليوم أعلم أمر الساحر أحب إلى اللهأم أمر الراهب ؟ قال: فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمرالساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى [ الناس ] فأخبر الراهببذلك.
فقال: أي بني أنت أفضلمني وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي فكان الغلام يبرئ الاكمه والابرص وسائر الادواءويشفيهم الله على يديه، وكان جليس للملك فعمى فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفنيولك ما ههنا اجمع فقال: ما أنا اشفي أحدا، إنما يشفي الله عزوجل، فإن آمنت به ودعوتالله شفاك فآمن فدعا الله فشفاه.
ثم أتى الملك فجلس منهنحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان من رد عليك بصرك ؟ فقال: ربي قال: أنا.
قال: لا ربي، وربك اللهقال: ولك رب غيري ؟ قال: نعم ربي وربك الله فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام [ فبعثإليه ] فأتي به فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الاكمه والابرص وهذه الادواء، قال:ما أشفي أنا أحدا إنما يشفي الله عزوجل، قال: أنا قال: لا قال: أو لك رب غيري ؟ قالربي وربك الله.
قال: فأخذه أيضا بالعذاب،ولم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى الراهب فقال: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشارفي مفرق رأسه حتى وقع شقاه وقال للاعمى ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسهحتى وقع شقاه [ في الارض ] وقال للغلام، ارجع عن دينك فأبى فبعث به مع نفر إلى جبلكذا وكذا وقال إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه [ من فوقه ] فذهبوا بهفلما علوا الجبل قال: اللهم أكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون.
وجاء الغلام يتلمس حتىدخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله، فبعث به مع نفر في قرقرة(2) فقال: إذا لججتم البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاغرقوه في البحر فلججوا به البحرفقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت [ فانكفأت بهم السفينة ] (3) فغرقوا أجمعون، وجاءالغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك فقال كفانيهم الله [ عزوجل ] ثم قالللملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنكلا تستطيع قتلي قال: وما هو قال تجمع الناس في
صعيد واحد ثم تصلبني علىجذع وتأخذ سهما من كنانتي (1).
ثم قل: بسم الله رب الغلام،فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد القوس، ثم رماه وقال بسم الله ربالغلام فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات (2) فقال الناس: آمنابرب الغلام آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك، قد آمنالناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فحفر فيها الاخاديد وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجععن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، وقال: فكانوا يتعادون فيها ويتواقعون (3) فجاءتامرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنكعلى الحق " (4) كذا رواه الامام أحمد ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن سلمةزاد النسائي وحماد بن زيد كلاهما عن ثابت به.
ورواه الترمذي من طريقعبد الرزاق عن معمر، عن ثابت بإسناده نحوه وجرد إيراده كما بسطنا ذلك في التفسير.
وقد أورد محمد بن إسحاقهذه القصة على وجه آخر فقال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب وحدثني أيضا بعض أهلنجران عن أهلها أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الاوثان وكان في قرية من قراها قريبامن نجران - ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمانأهل نجران السحر، فلما نزلها فيمون، ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه، قالوارجل نزلها فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجرانيرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامرمع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، فجعليجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن
شرائع الاسلام، حتى إذافقه فيه جعل يسأله عن الاسم الاعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه، وقال له: يابن أخي إنكلن تحمله، أخشى ضعفك عنه، والتامر لا يظن إلا أن ابنه عبد الله يختلف إلى الساحر كمايختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى قداح(5) فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاهاأوقد نارا، ثم جعل يقذفها [ فيها ] قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الاعظم قذف فيها بقدحه،فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا، فأخذه ثم أتى به صاحبه، فأخبره أنه قد علم(((البداية والنهاية ))) ابن كثير